مقالات 4 أشهر مضت

ديباجة الطبعة الأولى

المتأمـل فـي فلسـفة التاريـخ، يجـد أن الإيقـاع المتنـاوب للثبـات والديناميكيـة، للحركــة والســكون، مظهــر أساســي ملازم لطبيعــة الكــون، وفــي هــذا نشــطت أقلام جهابـذة البشـرية فـي محـاول تفسـير وتحليـل هـذا البعـد التكوينـي للوجـود البشـري، وضمـن إطـار المقاربـة الحضاريـة نجـد أرنولـد توينبـي، والـذي ومـن خلال نظريتــه النســقية، والمســتندة إلــى التأويــل الفلســفي للواقــع التاريخــي، والمتضمنـة فـي فكـرة التحـدي والاسـتجابة، اسـتنتج أن الوثبـة الحضاريـة إنمـا تنتـج عـن التحديـات التـي يواجههـا الإنسـان فـي واقعـه، لتسـتفزه بعدهـا وتدفعـه إلـى الفعـل، أي إلـى أن يسـتجيب لهـا، ويحولهـا إلـى «فرصـة» يمكنه الاسـتفادة منهــا، بشــرط توافقهــا مــع قــدرات الفعــل التــي يمتلكهــا فــي راهنــه الزمكانــي، وإن كان توينبـي يركـز فـي نظريتـه علـى القلـة المبدعـة، القـادرة علـى تحريـك الجمهــور بمــا تملكــه مــن شــرعية رمزيــة، نتجــت عــن نجاحهــا القيــادي، فــإن الكثيــر مــن النقــاد يــرون أن «الوثبــة الحضاريــة» لا يمكنهــا التحقــق إلا إذا تحولــت أســبابها لتتجســد فــي مجموعــة مــن الأفــكار والنظــم والمؤسســات، أي إلـى حالـة عامـة، أومـزاج كلـي، يحكـم حركـة مجمـل الأمـة، ويحـدد مسـارها، وينظـم توجههـا، ويمنعهـا مـن الانحـراف والزيـغ.

وإن كان التحــدي هومبعــث الفعــل الحضــاري، فــإن تمظهراتــه تتغيــر علــى حسـب الحالـة السـياقية التـي يعيـش فيهـا الفـرد، وعلـى حسـب الممكـن المعرفـي لعصــره، ثــم علــى موقعــه مــن موازيــن القــوة فــي عالمــه، فــإن المعرفــة واكتســابها، ورصيـد كل أمــة منهــا، هــي نقطــة التحــدي الأساســية التــي تميــز لحظتنـا الحضاريـة، ونقصـد بالمعرفـة هنـا، المعرفـة المجلّيـة للواقـع، والسـاعية لتشــخيص مشــاكله، وتقديــم الحلــول لهــا.

وفــي ســبيل تحقيــق التمكيــن والريــادة، وفــرض النمــوذج الحضــاري الخــاص، وتحييــد احتمــالات الفنــاء الوجــودي، اســتثمرت الــدول الغربيــة فــي مجـال المعرفـة الأداتيـة، ونتـج عـن هـذا مانسـميه بـــ « مراكـز الفكـر» ؛ حيـث تعتبـر الولايـات المتحـدة الأمريكيـة حاليـا متربعـة علـى عرشـه بامتلاكهـا مـا يزيـد عـن 1800 مركـز مـن مراكـز الفكـر، وتحـل الصيـن فـي الرتبـة الثانيـة بامتلاكهــا مــا يقــارب 500 مركــز فكــر، ولنــا أن نتأمــل الفــرق الشاســع بينهــا وبيــن ســابقتها، ثــم تأتــي باقــي الــدول الأوربيــة تباعـاً، وجديــر بالذكــر أيضـاً أن أغلــب الــدول العربيــة لا تملــك أي مركــز للفكــر؛ إن هــذا المعطــى كفيــل بإعطائنـا لمحـة عـن أسـباب تفـاوت دول العالـم فـي هيمنتهـا ونفوذهـا وقدرتهـا الاستشــرافية. ولكــن فــي الوقــت ذاتــه ينبغــي ألا يغيــب عــن ذهننــا أن تكديــس المنتجـات لا يصنـع دولـة ولا يشـيد حضـارة، وأن النُخـب العضويـة المشـتبكة مـع واقعهـا والمنحـازة إلـى أمتهـا لا تُصنـع دائمـا وبالضـرورة الحتميـة بقـرار سياســي فوقــي، وإنمــا تكــون نتاجــاً لحــراك مجتمعــي وتراكــم ثقافــي يحقــق الشــروط الفرديــة والجماعيــة لانتخــاب النخــب.

وممـا يحقـق هـذا التراكـم المعرفـي والحـوار الثقافـي علـى الأقـل فـي الوسـط الشــبابي والجامعــي؛ حلقــات القــراءة والتــي –علــى ندرتهــا وقلــة مرتاديهــا- تعتبــر فضــاءً نقاشـ ياً ومعرفيــا حــراً تغيــب فيــه التراتبيــة يهــدف إلــى تنويــع المطالعـات وتكويـن فكـر نقـدي يمكـن مـن تجـاوز الحـس المشـترك العـام، مـن أجــل فهــم أدق للواقــع. وعلاوة علــى هــذا فإنهــا فــي حــال اســتمرارها وثباتهــا كتقليــد دوري، وتجاوزهــا لظواهــر الفرجــة الثقافيــة والدعايــة الأيديولوجيــة والتضخــم التنظيمــي، تعتبــر بالنســبة لمرتاديهــا المداوميــن عليهــا؛ مخبــراً للملاحظــة السوســيولوجية الدقيقــة باعتبارهــا تمكنهــم مــن معرفــة اهتمامــات الشـباب عبـر مختلـف المراحـل العمريـة والدراسـية وأنـواع المطالعـة الرائجـة بينهـم، إضافـة إلـى نوعيـة تلقيهـم لمختلـف الأفـكار والتوجهـات، كمـا أنهـا تتيـح للملاحــظ الحصيــف استشــفاف ملامــح التغيــر الفكــري الــذي عــادة مــا يحــدث بوتيـرة بطيئـة وهادئـة، وكـذا تتبـع مختلـف المـدخلات المعرفيـة والنفسـية التـي سـاهمت فـي ذلـك. ومـن بيـن الظواهـر الملاحظـة بهـذا الصـدد شـيوع القـراءة الترفيهيــة والوعظيــة المنفصلــة عــن الواقــع، واســتبطان مفاهيــم مغلوطــة عــن الثقافــة باعتبارهــا تجميعـاً للمعلومــات، فــي مقابــل عــزوف شــبه تــام عــن الشأن الفكري.

تتحــدد إهتمامــات الشــباب بالأســاس عبــر التنشــئة الاجتماعيــة بمختلــف وســائطها بــدءاً مــن الأســرة باعتبارهــا المســؤول الأول علــى صنــع هويــة الفــرد وتحديــد انتمــاءه، وعلــى غــرس القيــم والأخـلاق التــي تصــوغ معنــى الحيــاة الــذي سيشــكل فيمــا بعــد اهتمامــات الفــرد وأهدافــه، ثــم المدرســة التــي هــي حجــر الأســاس فــي المجتمــع وعليهــا تعـ وّل الدولــة الحديثــة فــي تكويــن المواطـن الصالـح الـذي يُنتظـر منـه أن يـؤدي واجباتـه قبـل المطالبـة بحقوقـه ، وصـولًا إلـى وسـائل الإعـلام باعتبارهـا صانعـة الـرأي العـام، ودليـل الضميـر الجمعـي إلـى القضايـا المصيريـة. وإلـى مختلـف الوسائـــط الأخـرى كالمسـاجد والجمعيــات والمنتجــات الثقافيــة كالأدب والمســرح والســينما وغيرهــا.

ولكـن هـذه الوسـائط ترتبـط فـي علاقـة جدليـة مـع الواقـع المجتمعـي فـي علاقة تأثيـر وتأثـر؛ فالأسـرة تعيـش إكراهـات الواقع الاقتصـادي والسياسـي والاجتماعي وتتأثـر بسـلطة الثقافـة الغالبـة التـي تفرضهـا العولمـة، والمدرسـة الجزائريـة تعتبر نتاجـاً لتراكـم تاريخـي طويـل تمتـد جـذوره إلـى الليـل الاسـتعماري الطويـل الـذي رام مسـخ هويـة الشـعب وتكريـس تبعيتـه، وقـد كانـت بعـد ذلـك مسـرحاً للصـراع بيـن النخـب بعـد الاسـتقلال وإلـى اليـوم جعلها تفقـد معالمهـا، وكذلك الأمر بالنسـبة لباقـي الوسـائط فـي علاقتهـا مـع الواقـع بدرجـات متفاوتـة.

ويأتــي عــزوف الشــباب الجزائــري عــن الشــأن الفكــري كنتيجــة لهــذه العلاقــة الجدليــة بيــن وســائط التنشــئة الاجتماعيــة والواقــع المحلــي والدولــي بمختلـف تعقيداتـه، وللتجهيـل المتعمـد الرامـي إلـى تأبيـد التبعيـة علـى مختلـف الأصعـدة، وإلـى خلـق تصـورات سـلبية تكـرس للاغتـراب والعدميـة والتفاهـة وبالتالـي للاعتـزال الطوعـي للمسـؤولية. وهـذا فـي ظـل غيـاب وعـي بضرورة المرابطـة علـى الثغـور الفكريـة، وانتشـار أحـكام مسـبقة تعتبـر التحليـل النظري لمختلـف الظواهـر ترفـاً فكريـاً وتهـوِّن مـن جـدوى الإصلاح الثقافـي.

إن ظاهـرة عـزوف الشـباب الجزائـري عـن الشـأن الفكـري تعتبـر مؤشـرا هامّــا ل استشــراف مســتقبل النخبــة فــي الجزائــر، وهــي تنبــئ بخطــر اســتمرار التفــاوت المذكــور أعـ لاه بخصــوص مراكــز الفكــر باعتبــار العامــل البشــري عنصــراً مهمــا وحاســما فــي ذلــك، دون إغفــال تأثيــر اســتراتيجيات الــدول والأنظمــة السياســية فــي بعــث هــذه المراكــز وتفاوتهــا فــي الإمكانيــات والمؤسســات المؤهلــة لذلــك.

انطلاقًــا ممــا تقــدم وبنــاءً عليــه، جــاءت فكــرة هــذا الملتقــى الفكــري الــذي نحــاول فيــه – كشــباب مهتميــن بســؤال النهضــة الحضاريــة للأمــة- فهــم هــذه الظاهــرة وتحليــل أســبابها ومآلاتهــا.

إشكالية الملتقى:
ماهـي الأسـباب التـي تفسـر ظاهـرة عـزوف الشـباب الجزائـري عـن الشـأن الفكـري؟ يتفـرع عنهـا الإشـكاليات الجزئيـة التاليـة:
ماهــي الصــورة الواقعيــة الموصفــة لعلاقــة الشــباب الجزائــري بالشــأن الفكــري؟
مـا علاقـة ظاهـرة العـزوف عـن الشـأن الفكـري بالمجـال التكوينـي الأولـي ) الأسـرة، المدرسـة(… ؟
ما علاقتها بالبنية الخارجية ) الدولة، الثقافة الغربية، الرأسمالية( ؟
ماهي أهم الحلول الواقعية التي يمكنها تغيير المعادلة الواقعية تصحيحها؟

أهداف الملتقى:
لفــت الانتبــاه إلــى الفضــاءات الشــبابية كمرصــد لتشــخيص الظواهــر السوســيولوجية.
إلقــاء الضــوء علــى جــزء مــن واقــع المجتمــع الجزائــري، وتحديــدا ضمــن فئــة الشــباب.
بنـاء إطـار تحليلـي، عابـر للتخصصـات، يكـون بمثابـة لبنـة أولـى نحونظرية تفسـيرية سوسـيولوجية كلية.
إبراز أثر الفواعل الداخلية والخارجية في تشكيل الذات الجزائرية.
وضــع حلــول واســتراتيجيات فعالــة تســاعد فــي تشــكيل بنيــة داعمــة للإصلاح الاجتماعي.
إيجـاد فضـاء للنقـاش الجـاد والحـر حـول القضايـا الراهنـة، ولتفعيـل شـبكة العلاقـات الاجتماعيـة بيـن الشـباب المهتـم بالمجـال الثقافـي.
التــدرب علــى الكتابــة البحثيــة المنهجيــة كتكويــن مكمــل لرســالة حلقات القراءة.

mohamedbml28@gmail.com

مقالات أخرى

لا توجد تعليقات بعد

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *