الإشكالية الثالثة من الجلسة الأولى “الاعتزال الطّوعي للمسؤوليّة عند الشباب الجزائري: مقاربة حول محفزات الحس العبثي ومشاكل الواقع الجزائري” يحاول من خلالها طالب الدكتوراه “زين العابدين لبيوض” تجلية مشكلة تلاشي جاذبية القيم المؤسسة لفكرة المسؤولية كما يجب أن تكون لا كما هي في المخيال الاجتماعي، عبر النظر في تمثلات المزاج العبثي باعتباره شعوراً اجتماعيًّا و نمطًا سلوكية عند الأفراد والمجتمع ، مسلطًّا الضوء على أهم العوامل التي ساعدت في تعزيز وتثبيت هذا المزاج في واقع استهلاكي.
في ظلِّ الإشكالية الكبرى للملتقى، يشير المتدخل إلى مشكلة منهجية ونفسية في التعامل مع الواقع، إذ إنّ رهان اليوم هو في البحث عن الكلمات المناسبة كما يقول ميشال ميزوفيلي، في تجلية ما أمكن من التحليل لواقع الشباب الجزائري كونه فردًا أو جماعة لها خصوصيات و ظواهر مرصودة مع عوامل ومحفزات ترتبط بها، إضافة إلى وجود ما يشتبك مع السياق العالمي و مؤسساته، بعيدا عن الانطباعات الشخصية والانتمائية، أي تلك التحليلات التي ترتبط برغبة توجهها في سؤال : كيف هو الواقع؟ فضلا عن كيف يجب أن يكون؟
يلاحظ الدّارس للواقع الجزائري وخصوصياته ضعف أكثر الدراسات حوله والتي لا تصل عادة إلى ذلك القدر من الدراسة المنهجية السوسيولوجية الجادة، إضافة لذلك نجد أن أغلب الدراسات تُعالج الشباب كشريحة واحدة متغافلة عن الاختلافات الموجودة بين فئاته والتي يفرضها الواقع، وفي ظل هذا نجد إشكالية في التعاطي مع المفهوم، وبالتالي في سلاسة إسقاطه مباشرة على الواقع الجزائري.
إن المزاج العبثيّ مرتبط أساسًا بإجابة سؤال “ما هو المعنى؟ وبالضرورة من يحدده؟” قد نجد أبرز من تعاطى مع السؤال مباشرة بمحاولة نسقية هو سارتر ليجعل للذات سلطة صناعة المعنى. فإن الواقع الاستهلاكي اليوم يفرض إجابات أيضا لكنها بأنماط أكثر مستغلا خاصية الإنسان النفسية الطبيعية {اهتمام الفرد بصورته المرسلة في الفضاء العام}، في حين، نجد سؤال المعنى بسياقه السابق غائبًا عن ذهنية الشباب الجزائري في مجتمعه فضلا عن غيابه عن محاولات تسعى لتأسيس رؤى إصلاحية، فالسؤال بدوره يشكل قاعدة معرفية و اجتماعية لما بعده أي: ماهي المسؤولية ومن يحددها؟ في ظل تغلغل الفردانية بصورتها النرجسية، نشير أنّ هذا المزاج عرض لا ينفك أيضا عن تراكم لأمراض أنثروبولوجية و اجتماعية، أبرز لوازمه ما يركز عليه بن نبي بانفصال الفكرة عن الواقع.
لينتقل بعد ذلك إلى عرض تمثلات المشاكل التي أدّت إلى الاعتزال الطوعي التي يمكن تلخيصها في ما يلي:

ذهنية الانخراط في العمل السياسي و البروقراطي خصوصا بعد الحراك والذي صار شكلًا مهما من أشكال إثبات الذات في المجتمع، وهذا اختزال لمفهوم المسؤولية بسبب التصورات التي يتلقاها الفرد في واقعه عن طريق التفاعل مع مجتمعه و التعود على الممارسة، وهنا تفيدنا ” نظرية البناء الاجتماعي للواقع لبرغر ولوكمان” في استيعاب أزمة تصور المسؤولية .

الهجرة غير الشرعية كونها ظاهرة لا حوادث غير متناسبة، و التي تعبر – حسب دراسات ميدانية و شعور اجتماعي غالب – عن اعتزال للواقع وسخط على ظروف المجتمع وبالتالي عدم مواجهته، واللافت أن الدراسات تنفي ارتباط هذا الفعل بعدم تعلّم الشباب أو تدني مستواهم الاقتصادي، مما يستجلب ذكر أعراض اجتماعية متداخلة تؤسس لهذا الشعور.

سيطرة المزاج الاستهلاكي وسلطته في صناعة المعنى، تكثيف محفزات ومصادر المتعة، مما يسبب بالضرورة زوال جاذبية القيم و المبادئ، فضلًا عن زوال فاعيّلتها مع بقاء صورها تستدعى كخيارات مساوية للرغبات المتاحة في السّوشل ميديا، إذ إننا أمام جزء كبير من تصورات وواقع يصنعه مؤثرون (ترميز التافهين كما يعبر دونو) في جميع المجالات حتى الديني، دون اكتراث أو شعور بأولوية وقيمة المبدأ، مما يجعل إشباع الرغبة بشكل لا متناهي الإجابة الوحيدة المفروضة لسؤال المعنى.
بعدها تحاول الورقة البحثية الربط مع عناصر تعتبر محفزات لذلك الحس العبثي:

ننطلق من مسلمة أن لكل نشاط عملي أو سلوك اجتماعي علاقة بالفكر الذي يسيره والوعي به، و هنا تؤثر التركيبة الذهنية السلوكية للمجتمع أو ما يعبر عنه بورديو بالهابيتوس في صناعة تصورات وبالتالي سلوكات الأفراد. في نفس السياق، نستصحب ما يراه “بن نبي” سبباً للعزوف عن المسؤولية كونها نوعا من الخيانة لطبيعة الأشياء يعود إلى خلل في الأفكار إذ يعبر عنه بذهان
السهولة وذهان
الاستحالة مما يفضي لجعل فكرة ودوافع بذل الجهد أو التغيير أمرًا لامفكرًا فيه.
يشير المتدخل إلى اختلاف تلك المحفزات والعوامل المساهمة في تجليات العزوف عن المسؤولية عند الشباب -مع اشتراكهم في أنماطها-على الذات وفي الواقع :

وجود شريحة تأثرت بتوجّه معين في الأدب الروائي أو قريبًا مما يسميه “دونو”
بالميتوس أي القص الذي له سطوة في التَّأثير، خصوصًا الذي يتركز أو يجسد خطابًا عبثيًّا أو لااكتراثيًّا ، لأسباب نفسيَّة وأسلوبيَّة تجعلها أقوى تأثيرًا في شخصية القارئ ومنه يتلقى “الإيتوس” والصورة التي يرغب أن يتمثلها في مجتمعها، بمحاذاة المشاكل الواقعية و”الحوادث” التي تغذي المساحة بين شعور الرغبة بما يجب أن يكون عليه الواقع وما هو عليه.

تأثير مواقع التّواصل الاجتماعي كونها مؤسسة للقيم وتصنع وتسوق لهم أسلوب حياة جاهز للشباب، بجانب دراسات ميدانية كشفت أيضا كيف تكون لهم هويتهم وشخصيتهم وتقليل الحساسية من القيم الدينية والاجتماعية، مقابل غياب أسلوب منافس يركز نفسيًّا على التأثير الاجتماعي بعيدًا عن نرجسية الخطاب وتعقيده واختزاله .

الخطاب الديني غير القار على مرجعيّة واحدة أو واضحة مستوعبة لإشكاليات الواقع و اختلافاته، يؤدي إلى خليط ديني-ذهني هجين مُستورد من مواقع التواصل أو الفيديوهات القصيرة التي تشكل خللًا بين واقعه وخصوصياته وما يستورده من خطابات فوضوية تعطيه ثقة العمل بها دون رؤية واضحة، تكون فيه الخطابات نفيها والفتاوى خاضعة للنمط الاستهلاكي وتحقيق الرغبة ليكون التدين نمطًا فرديًّا غير مفكر فيه جماعاتيًّا، هذا يسبب انفصامًا بين ما يعيشونه وما يتخيلونه أو يرغبون به، من خلال الخلل الذي يحدثه في الروابط الاجتماعية التي يفترض أنها تكون وفق رؤية دينية ممكنة الحصول في أدنى تصور لها .
يختم المتدخل ورقته بالتذكير أن معركة الإنسان المعاصر اليوم هو اكتشاف من يصنع له المعنى؟ من خلال هذا يدرك الإنسان تمثل المسؤولية في واقعه، وبعدها كيف يجب أن تكون؟ فالتفكير نشاط جماعي و فاعلية مشتركة، وكل تفكير يقتصد في بنائه على منظومته الذاتية، مقطوع الصلة بحاضنته الجماعية، محكوم عليه بالفشل والزوال ، هنا لابد أن تتشابك النخب أولاً، قبل/من خلال الحديث عن التشابك مع المجتمع، لابد للنخبة أن تجد الخيوط الناظمة لها من خلال انتمائها الهوياتي، رغم اختلافات توجهاتها، فرهان اليوم ضبط / تكوين / تأهيل نقاط القوة في خطاب/رؤية يواجه تحديات الخطاب الاستهلاكي وثقل خطابات المجتمع التي تكون شخصية الفرد وتصنع له المعنى و توجه له المسؤولية، الرهان إذن في صناعة مؤسسات موازية للمعنى تحجم الأزمات التاريخية وتعطي مكانة للأولويات، حفظ هوية الإنسان بما هو فطرة أولاً، و كونه ذا هوية لها أبعادها المبدئية و الاجتماعية الواقعية.
لا توجد تعليقات بعد